[ رواه البيهقي ]
وجَدْتُ أنَّ قصص أَصْحاب رسول الله وعلى رأسِها سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الموضوع الثالث المُهِمّ الذي يأتي بعد تفْسير كتاب الله ، وبيان سُنَّة نبِيِّه ، لذلك اسْتعَنْتُ بالله عزّ وجل وأردْتُ أنْ أجْعل من درْس الاثنين في السيرة النبويَّة ، وفي سيرة أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن دون أن أكون مُلْزَماً بِتَسَلْسُلٍ مُعيَّن ، ولا بِصحابي دون صحابي ، لأنني أخْتار بِفَضْل الله عزّ وجل الصحابِيَّ أو المَوْقف من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام الذي نحن في أشدّ الحاجة إليه ، وسِرّ هذا أنني كنت مرَّة في عقد قِران ، وقام أحد العلماء يُلقي كلمة فَمِن جُمْلة كلِمَتِه ذكر حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ فَقُلْتُ وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ *
[ رواه النسائي ]
وفي رواية أبي داود : أنْ تقول دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ....."
وما أدري لِمَ فعلَتْ هذه الكلمة في نفْسي فِعْل السِّحْر ؟ فقلت : إذا أحَبَّك النبي عليه الصلاة والسلام فهل من بعد هذه المرتبة من مرْتبة ؟ وهل من أعظم منها ؟ أنْ يُحِبَّك رسول الله ، ورسول الله لا ينْطق عن الهوى ، ولذلك وجدت أنّ كلّ إنْسانٍ يفْرح بِحُبِّ جِهَةٍ له ، فكلما ارْتقى الإنسان فرِح بِحُبِّ الله ورسوله له ، لأنّ حُب الله عز وجل هو عَيْن حُبّ رسول الله ، وحب رسول الله هو عَين حُبّ الله عز وجل ، لأنّ الله ورسوله أحقّ أن يُرْضوه ، فانْطِلاقاً من هذا الصحابي الجليل الذي قال في حقِّه رسول الله حديثاً ؛ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ فَقُلْتُ وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ *
[ رواه النسائي ]
أردْت أنْ أجعل هذا الصحابي موضوع الدرس الأول من دروس السيرة ؛ مُقْتطفات وفقرات ومواقف وأقْوالاً لهذا الصحابي الجليل ، الذي هو سيّدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه .
قال بعْضهم : دخلْتُ مسْجدَ حِمْص فإذا أنا بِفَتىً حوله الناس ؛ جَعْدٍ قطَطٍ ، أيْ شعْره أجْعد، إذْ هناك شعْرٌ أجْعد ليس مُسْتَحْسناً ، لكن شعْر هذا الصحابي كان أجْعد ، ولكنه مُسْتَحْسن ، وهو معنى قطط ، فإذا أنا بِفَتىً حوله الناس جَعْدٍ قطَطٍ ، إذا تكلَّم كأنما يخرج من فيه نورٌ ولُؤلؤ ؛ هذا تأييد الله له ، فأنت إذا أخْلصْت أيها الأخ الكريم لله رب العالمين ، والْتَزَمْتَ أوامر الديــن ، واتّصلْت بالله جل جلاله ، أسْبغ الله عليك مهابَةً وجمالاً ووضاءَةً ونوراً وهَيْبَةً وسكينةً ووقاراً
قال : فإذا أنا بِفَتىً حوله الناس جَعْدٍ قطَطٍ ، إذا تكلَّم كأنما يخرج من فيه نورٌ ولُؤلؤ فقلتُ : من هذا ؟ فقالوا : هو مُعاذ بن جبل ، وهذا هو معنى قول الله عز وجل حينما خاطب النبي عليه الصلاة والسلام وأصْحابه مَعْنِيون بِهذا الخِطاب وكذا كلّ مؤمن في كلّ مكانٍ وزمان : وَرَفعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ "
[سورة الشرح]
هذا لِكُلّ مؤمن ؛ كل مؤمن أخْلص لله عز وجل ، وأكْرمه الله عز وجل بِمَنْطقٍ وحُجَّةٍ ووقارٍ ومهابَةٍ ونورٍ ومكانةٍ وسُمْعةٍ ...إلخ ، وعن أبي مسلم الخوْلاني قال : أتيتُ مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا شابٌ فيهم أكحل العين ، براق الثنايا ، وأسْنانه تلمَع ؛ دليل نظافته ، ودليل عِنايَتِهِ بِأسْنانه ، براق الثنايا ، وكلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى ، فقلت لِجَليسٍ لي : مَن هذا ؟ فقال : هذا مُعاذُ بن جبل ، هذا يُذكِّرُني بِمَقولةٍ أنَّ العالم شيْخٌ ولو كان حَدَثاً ، وأنّ الجاهل حَدَثٌ ، ولو كان شيخًا ، وهذا يُذكِّرُني كيف أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اخْتار أُسامة بن زيد الذي لا تزيد سِنُّهُ عن سبعة عشر عاماً قائداً لِجَيْشٍ فيهم أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ ، وكيف أنّ الشباب في الإسلام له شأنٌ كبير ، وله شأنٌ خطير ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :" ريح الجنّة في الشباب .." طاقاتهم كامنة ، وانْدِفاعهم شديد ، وغيرةٌ عظيمة ، وتعلُّقٌ بالمبادئ والمُثُل ؛ هؤلاء الشباب إذا أُحْسن تَوْجيههم ، ودُلوا على الله عز وجل، وعلى طريق البطولة، كان لهم شأنٌ ، وأيُّ شأنٍ ، كان هذا الصحابي الجليل زاهِداً في الدنيا ، قال مالك الداريّ : أخذ عمر بن الخطاب أربعمئة دينارٍ فَجَعَلها في صُرَّةٍ فقال لِغُلامٍ له : اِذْهب بها إلى أبي عُبيدة بن الجراح ثمّ تلَهَّ - وهو فعل أمرٍ - أيْ أُلْهُ بشيءٍ حتى تبْقى عنده فَتَنْظر ما يصْنع بها ، ثمّ تلهَّ ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع قال : فذَهب الغلام وقال له : يقول لك أمير المؤمنين : اِجْعل هذه في بعض حاجتك ، فقال رضي الله عنه : وصله الله ورحِمَهُ ؛ أرأيْتُم أيها الإخوة : أنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله ، فهناك أشْخاص يسوق الله لهم خيراً على يدِ رِجال ثمّ يتنكَّرون ويقولون : لقد منَّ الله علينا بالهُدى ، ويسوق الله لهم أشْخاصاً يُكْرِمونهم إكْراماً مادِّياً ، ثمَّ يقولون : هذا رِزْقٌ ساقه الله إلينا ، ولكن هذا لا يمْنَعُ أنْ تشْكر الناس، لأنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله ، ماذا قال هذا الصحابي الجليل وماذا فعل ؟ قال : وصله الله ورحِمَهُ، ثمّ قال : تعالَيْ يا جارِيَة ، واذْهَبي بِهذه السبْعة إلى فلان ، وبِهذه الخمسة إلى فلان ، وبِهذه الثلاثة إلى فلان ، حتى أنْفَذَها جميعَها ، فَرَجَع الغُلام إلى عُمر فأَخْبَرَهُ ، فوَجَده قد أعَدّ مِثْلها لِمُعاذ بن جبل صاحب هذا الدرس ، وقال له : اِذْهب بها إلى معاذ بن جبل وتلهَّ في البيت ساعةً حتى تنظر ماذا يصْنع ، فذَهَب بها إليه ، وقال له : يقول لك أمير المؤمنين : اِجْعَل هذه في بعض حاجَتِك ، فقال : وصله الله ورحِمَهُ ، تعالَيْ يا جارِيَة واذْهبي إلى بيت فلان بكذا ، وإلى بيت فلان بِكذا ، فاطَّلَعَتْ امْرأته فقالت : ونحن ! والله مساكين فأَعْطِنا ، ولم يبْقَ في الخِرْقة إلا ديناران فدفع بهما إليها ، وقال : خُذي ، فرجع الغلام إلى عمر وأخْبره بِذلك ، فقال : إنهم إخوة ، بعضُهم من بعض ؛ ألم يقف النبي عليه الصلاة والسلام قُبَيْل وفاته وقد نظر إلى أصْحابه وهم يُصلون في المسْجد فتَبَسَّم حتى بَدَتْ نواجِدُه ، وقال : حُكماء علماء ، كادوا من فِقْهِهِم أن يكونوا أنبياء ؟ إنهم أبطال .
أمّا وَرَعُهُ ؛ فكان لِمُعاذ بن جبل امْرأتان ، فإذا كان عند إحْداهما لم يشْرب في بيت الأخرى الماء ، لِيُحَقِّقَ العدْل الكامل بينهما ؛ هذه الليلة لِفُلانة فيأكل ويشْرب وينام عندها ، أمّا عند الأخرى فَكان لا يشْرب عندها الماء في الليلة التي ليسَتْ لها ، وعن يحيى بن سعيد :" أنَّ مُعاذ بن جبل كان له امْرأتان فإذا كان يوم إحْداهما لم يتوضَّأ في بيت الأخرى فَوُضوؤهُ وصلاتُهُ وطعامه وشرابه وسَمَرُهُ عند صاحبة الليلة ، ألم يقل الله عز وجل :
[ النساء : الآية 3 ]
لذلك قالوا : ركْعتان من ورِع خير من ألف ركعة من مُخلِّط ! ألم يتَنَحَّ الإمام أبو حنيفة عن ظلِّ بيتٍ إلى الشمس ، فلما قيل له لِمَ : قال هذا البيت مُرْتَهَنٌ عندي ، وأنا أكْرهُ أن أسْتفيد من ظِلِّه ، وعن ثَوْر بن يزيد قال :" كان مُعاذ بن جبل إذا تهجَّد من الليل قال : اللهم قد نامت العُيون وغارتِ النجوم وأنت الحيّ القيوم ؛ اللهم طلبي للجنّة بطيء - إذا كان رضي الله عنه طلبه بطيء فَنَحن جامِدين - وهربي من النار ضعيف اللهم اجْعل لي عندك هُدىً ترُدُّهُ لي يوم القِيامة إنك لا تُخْلف الميعاد "
ولِذلك علامة المؤمن أنَّهُ يتَّهِم نفْسه دائِما ، وعلامةُ المنافق أنَّهُ يرضى عن نفسه ، حتى العوام يقولون : لا يرْضى عن نفسه إلا إبليس !.
وهذا أحد التابعين قال : الْتَقَيْتُ بِأَربعين صحابِياً ما واحِدٌ منهم إلا ويظنّ أنه منافق ، من شِدَّة خوفِهِ من الله ، ومُحاسَبَتِهِ لِنَفْسه ، ومُراقَبَتِهِ لها ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال : أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيٌّ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ *
[رواه الترمذي]
والنبي عليه الصلاة والسلام وُجودُهُ يطغى على كلّ إنسان ، وعظمتُهٌُ باهرة ، ولا يُلْتَفـَتُ إلى إنسانٍ غَيْرِهِ ، وفقد عرف قدْرَ أصْحابه ، وأعطى كُلّ واحِدٍ منهم قَدْرَهُ ، مرَّةً سأل النبي عليه الصلاة والسلام مُعاذ حينما أرسله إلى اليمن ، فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ قَالَ أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ *